دحول الصُّمان..
عالم مليء
بالأسرار
كهوف ومغارات عميقة في الأرض، نتجت عن تسرب مياه الأمطار، وتعد إحدى عجائب الطبيعة.
• إعداد: سعد بن عبدالعزيز الشبانات
§ الدحول ظاهرة جغرافية طبيعية ووسيلة جذب سياحية يرتادها كثير من هواة التنزه بالصحراء
§ اعتاد أهل البادية والمسافرون عبر صحراء الصمان دخول هذه الدحول للسقيا
الدحول مغارات وسراديب تحت الأرض، وتعد إحدى عجائب الطبيعة وغرائبها في الصحراء، بهرت من شاهدها من الرَّحالة والمستكشفين، تكونت بفعل ذوبان التربة الهشة التي بين الصخور الصلبة حتى صارت مغارات كالشقوق، يذهب بعضها في الأرض إلى عدة كيلومترات، وقد يتصل بعضها ببعض، وأصبحت مجاري لمياه السيول في باطن الأرض, وعلى مر السنين توسعت هذه المجاري لتصبح كالأنفاق، تتسع، وتضيق، وتلتوي في باطن الأرض، مكونة سراديب طويلة.
تكثر الدحول في منطقة الصلب بالصمان، خصوصًا قرب بلدة معقلة، وكذلك على حافة هضبة الصمان الشمالية، التي تبعد عن مدينة الرياض، في الاتجاهين الشمالي والشمال الشرقي بـ250 كيلومترًا تقريبًا، وعلى مداخل الدحول تنمو الأشجار، وربما يعيش في بعضها، على خشاش الأرض، ثعابين وخفافيش وحشرات، كما أنها ملاذ آمن لبعض الحيوانات البرية، وتتكون في أسقف الدحول مساقط أعمدة كلسية ناتجة من نضح الماء وتسربه من سطح الأرض إلى باطنها، وهذه الأعمدة التي تكونت على مر السنين أشبه بمساقط المياه المتجمدة.
يتكون داخل هذه الدحول قلات المياه منها بعيد المورد وهي غزيرة الماء، والقريب منها ينضب ماؤه سريعًا، بسبب السقيا، أو التبخر، وتأخر جريان السيول بها، لذا يضطر الساقي إلى الدخول في أعماق الدحل بحثًا عن المياه، ما يعرض حياته للهلاك أو الضياع في سراديب الدحول المظلمة.
ويعد أ.د.عبدالله بن يوسف الغنيم من أوائل الباحثين الذين درسوا ظاهرة دحول الصمان، وله بحث مطبوع استكمالًا لرسالة الدكتوراه بعنوان «أشكال سطح الأرض في شبه الجزيرة العربية»، كما تجول في أنحاء الجزيرة ومنها صحراء الصمان، يقول في وصف الدحل: «الدحول والدحلان مفردها: دحل، وهي كهوف ومغارات عميقة، نتجت من تسرب مياه الأمطار التي تغلغلت خلال الشقوق في الصخور الجيرية والكلسية، حتى وصلت إلى الطبقات الخازنة للمياه، وبتوالي عمليات النحت السفلي المتمثل في تأثير المياه الجوفية وتغلغل مياه الأمطار من السطح، اتسعت مسارب المياه، وكونت ما يشبه المغارات التي تجري في باطنها المياه، وتحدها من أسفل طبقة صخرية صماء، والدحل يتجه يمينًا وشمالًا تبعًا لطبيعة الصخور نفسها، ومدى مقاومتها عوامل الإذابة والنحت المائي».
وقال عنها الهمداني في «صفة جزيرة العرب»: «الصمان دحول تحت الأرض مخرقة في جلد الأرض، منها ما يصل عمقه إلى سبعين بوعًا أو مئة بوع تحت الأرض، ومنها ما هو أقل من ذلك أو أكثر، ومن بينها دحل العيص، ودحل أريكة بالصحصحان، ودحل السمرات، ودحل الضبي، وماؤها من ماء السماء عذب، وبالصمان المصانع، وهي متكونة من الأرض غير المرصوفة بالصفا من جوانبها».
كما وصفها الدحال أبومنصور الأزهري في كتابه «تهذيب اللغة» فقال: «وقد رأيت بالخلصاء ونواحي الدهناء دحلان كثيرة، وقد دخلت غير دحل منها، وهي خلائق خلقها الله تحت الأرض، يذهب الدحل منها سكًا في الأرض قامة أو قامتين أو أكثر من ذلك، ثم يتجه يمينًا أو شمالًا، فمرة يضيق، وأخرى يتسع في صفاة ملساء، لا تحيك فيها المعاول المحددة صلابتها، وقد دخلتُ دحلًا منها، فلما انتهيت إلى الماء، إذا جو من الماء الراكد فيه، لم أقف على سعته وعمقه وكثرته، لشدة الإظلام في الدحل تحت الأرض، فاستقيت أنا وأصحابي من مائه، فإذا هو عذب زلال، لأنه من ماء السماء».
وقال جرير يصف ظلمة الدحل:
بِالدَّحلِ كُلَُّ ظَلامٍ لا تَزالُ لَهُ
حَشرَجةٌ أَو سَحيلٌ بَعدَ تَدويم
ِ
وفي وادي العجمان المسمى قديمًا «وادي الستار» شرق الصمان عيون جارية قال عنها الأزهري:
«والستار وفـيه عيون فَوََّارَة تسقـي نـخيلًا كثـيرة زينة، منها عَيْنُ حَنـيذ، وعينُ فِرْياض، وعين بَثاءٍ، وعين حُلوة، وعين ثَرْمداءَ، وهي من الأحساء علـى مسافة ثلاث لـيالٍ»، وموقع عين حنيذ الذي أصبح الآن مدينة عامرة تُسمى حنيذ، وللأسف فقد جفت منابع هذه العيون، بسبب قلة الأمطار، وانخفاض منسوب المياه في باطن الأرض.
وكلمة الدحل فصيحة، وما زالت مستخدمة حتى عصرنا الحالي، جمعها دحال أو دحول، وتسمى أيضًا الخلائق، لأنها من خلق الله، ويوجد بهذه الدحول ملازم للماء عذبة نقية، إلا أن الوصول إليها فيه عناء، وضدها المصانع، وهي التي يُحدثها الإنسان لجمع ماء السماء.
وقد يصل عدد الدحول والخرائق المنتشرة في أرض هضبة الصمان إلى المئات بل أكثر، إلا أن المسمى منها الذي كان يستخدم للسقيا لا يتجاوز مئة دحل.
ويقال إن رجلاً اسمه عواد بن عزران المطيري، كان يرى من قمة ضلع المفروقة شمال الصمان أكثر من 40 دحلًا، ومن أسماء دحال الصمان المشهورة:
دحل أبوحرملة، دحل العيطلي، دحل النضو، دحل مطار، دحل فتاخ، دحل الفري، دحل أبوجنب، دحل أبوسوادة، دحل سريويل، دحول عزاري، دحل الغبي، دحل أم مقام، دحل مشيقيق، دحل بالخران، وغيرها من الدحول المنتشرة على هضبة الصمان.
وتعد هذه الظاهرة الجغرافية الطبيعية وسيلة جذب للسياحة الصحراوية بمنطقة الصمان، لما تحويه أرضها من أعداد هائلة من الشقوق والمغارات, ويرتادها كثير من هواة التنزه بالصحراء، وربما وُجد في باطن أرض الصمان ما يشبه مغارات جعيتا في لبنان لو استكشف ما في باطن الأرض من قبل مختصين، وقد أخبرني أحد كبار السن أنهم كانوا يسمعون خرير الماء في جوف الأرض في منطقة الصلب بالصمان، وهم قادمون من الأحساء إلى الرياض.
وتشير بعض الدراسات الجيولوجية إلى أن السيول التي تبتلعها دحول الصمان تتغذى بها عيون الأحساء، حيث إن ميول قشرة أرض الصمان تتجه نحو منطقة الأحساء والخليج، وتتجه ميول أرض الجزيرة العربية نحو الشرق والشمال.
وقد هلك كثير من المسافرين داخل الدحول، ففي باطنها هوات سحيقة، يصل عمقها إلى عشرات الأمتار، ولضعف الاستعدادات من حبال وغيرها، يتعرض المسافرون لمواقف صعبة منها ما يؤدي إلى هلاك الكثيرين في سراديب الدحول، حيث إن باطنها حالك الظلمة، ولا تتوافر فيه وسائل الإضاءة.
وقد سمعت من أهل بادية الصمان قصصًا قد تكون أشبه بالأساطير, وأكثرها الضياع في غياهب الدحول عند دخولهم إياها للحصول على المياه، ومن تلك القصص ما رواه الشيخ محمد بن فرحان آل زاهر العجمي، وهو من سكان منطقة الصمان، حادثة حصلت في دحل ساقان جنوب الصمان في العقود الأخيرة من القرن الهجري الماضي.
قال الشيخ محمد: «فوهة دحل ساقان ضيقة تشبه مدحلة الضب على شكل حلزوني، ويقع في أرض منبسطة بيضاء من هضبة البيضة في مفصلها من هضبة صلب الحني، وكان أحدهم قادمًا من مورد سعد متجهًا إلى الحني، وقبل أن يصل الحني أدركه الظمأ، وكان الجو حارًا والظمأ كاد يقتله حتى خارت قواه، وكان يعرف موقع دحل ساقان، فاتجه نحوه ليشرب.
وفي هذا الوقت كانت ماكينة ضخ المياه في الحني متعطلة، وليس هناك ماء، فذهبت أنا وبعض جماعتي للعجاجية «مورد مياه شرق الحني» لنورد منها المياه لأهلنا، وبعد وصولنا وجدنا جماعتنا قلقة على تأخر الرجل خصوصًا والدته وأخته، وكان قد مر على خروجه من مورد سعد اثنا عشر يومًا، وقد أخبرهم بذلك من رآه قد غادر مورد سعد متجهًا إلى الحني.
قمت ومعي أحد أفراد جماعتنا للبحث عن الرجل ولكن أين؟ قلت لصاحبي: لنبدأ أولا بالدحول القريبة من المنطقة لعلنا نجده أو نعرف خبرًا عنه، وكان أقرب الدحول: ساقان، وبطيحان، وأبوسلمة، وأبالخران، والصحابية، وعزاري، والغبي، ومشاش القلة. وعندما وصلت وصاحبي دحل ساقان وجدنا متاع الرجل عند الدحل، وفيه عدد من الطلقات النارية من نوع الصمعا، وأربعة دراهم سعودية، وحجر فضة، وكعادة بعض العرب وجدنا الرجل قد قام برسم وسم إبل أهله على صخور الأرض قرب متاعه، لكي يُعرف به، لأن مَنْ يدخل الدحل لا يضمن نجاته وخروجه منه سالمًا، خصوصًا إذا كان بمفرده.
يواصل الشيخ حديثه قائلًا: «بهذه العلامات عرفنا أن الرجل في هذا الدحل، ولا نعلم هل هو حي أم ميت، فقمت بالنزول في الدحل بعد ربطي بحبل طويل، وكان عمق هوة الدحل يصل إلى 33 باعًا «أكثر من خمسين مترًا»، قمت بنداء الرجل، لم أصدق نفسي حين سمعته يرد علي بصوت ضعيف بعيد عني، وأنا لا أراه من شدة الظلام،
اتجهت نحو الصوت وأنا أمشي بحذر، لكي لا أقع في أحد خرائق الدحل، وقد اهتديت إلى موقعه بصوته المصحوب بالأنين، أخبرني الرجل أنه سقط من الخريقة الثانية وانكسر، وأنه وجد ترابًا قام يحفر فيه قبرًا له، فانفتحت له خريقة دخل معها فوجد الماء وشرب، أخرجت الرجل ورجعنا به إلى جماعتنا «مضارب البادية»، وهم في بيوت الشعر، وكان الوقت في منتصف الليل، قمت بإخبار أحد أفراد الجماعة، فقام بالنداء مبشرًا الناس بسلامة الرجل، خرج الناس من بيوتهم يبكون فرحين شاكرين الله على سلامة الرجل، وكان موقفًا صعبًا مؤثرًا.